الهجرة إلى الحبشة
* عن أم سلمة رضي الله عنها ، أنها قالت : لما
ضاقت مكة وأوذى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم
من البلاء والفتنة في دينهم وأن رسول صلى الله عليه وسلم لايستطيع دفع
ذلك عنهم ، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمه ، لا يصل إليه شيء مما
يكره ومما ينال أصحابه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده ، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه )) .
فخرجنا إليها أرسالاً ، حتى اجتمعنا بها ، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا ، ولم نخشى فيها ظلماً .
فلما رأت قريش أنا قد أصبنا داراً وأمنا غاروا منا ، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم .
فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي
ربيعة ، فجمعوا له هدايا ولبطارقته ، فلم يدعوا منهم رجلا إلا هيَّأوا له
هدية على حده ، وقالوا لهما : ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا
فيهم ، ثم ادفعوا إليه هداياه ، فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم
فافعلوا .
فقدما عليه ، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا
قدموا إليه هديته ، فكلموه فقالوا له : إنما قدمنا على هذا الملك في
سفهائنا ، فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم . فبعثنا قومهم
ليردهم الملك عليهم ، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل ، فقالوا :
نفعل .
ثم قدموا إلى النجاشي هداياه ، وكان من أحب ما يهدون إليه من مكة الأدم ، وذكر مسوى بن عقبة أنهم أهدوا غليه فرسا وجبة ديباج .
فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له : أيها الملك
، إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين
مبتدع لا نعرفه ، وقد لجأوا إلى بلادك وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم ،
آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم ، فإنهم أعلى بهم عينا ، فإنهم لن
يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك .
فغضب ثم قال : لا لعمر الله ! لا أردهم عليهم
حتى أدعوهم فأكلمهم وأنظر ما أمرهم ، قوم لجأوا إلى بلادي واختاروا جواري
على جوار غيري ، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم ، وإن كانوا على غير
ذلك منعتهم ولم أخل بينهم وبينهم ، ولم أنعم عينا .
وذكر موسى بن عقبة أن أمراءه أشاروا عليه بأن يردَّهم إليهم ، فقال : لا والله حتى أسمع كلامهم وأعلم على أي شيء هم عليه .
فلما دخلوا عليه سلموا ولم يسجدوا له ، فقال ، أيها الرهط ألا تحدثوني مالكم لا تحيوني كما يحيِّّيني من أتانا من قومكم ؟ !
فأخبروني ماذا تقولون في عيسى ، وما دينكم ؟
أنصاري أنتم ؟
قالوا : لا .
قال : أفيهودا أنت ؟
قالوا : لا
قال : فعلى دين قومكم ؟
قالوا : لا .
قال : فمادينكم ؟
قالوا: الإسلام .
قال : وما الإسلام ؟
قالوا نعبد الله ، لانشرك به شيئاً
قال : من جاءكم بهذا ؟
قالوا : جاءنا به رجل من أنفسنا ، قد رعرفنا
وجهه ونسبه ، بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا ، فأمرنا بالبر
والصدقة والوفاء وأداء الأمانة ، ونهانا أن نعبد الأوثان ، وأمرنا بعبادة
الله وحده لا شريك له فصدقناه وعرفنا كلام الله ، وعلمنا أن الذي جاء به من
عند الله فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا وعادوا النبي الصادق ، وكذبوه
وأرادوا قتله ، وأرادونا على عبادة الأوثان ، ففررنا إليك بديننا ودمائنا
من قومنا .
قال : والله إن هذا لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى .
قال جعفر : وأما التحية : فإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أخبرنا أن تحيه أهل الجنة السلام . وأمرنا بذلك فحييناك
بالذي يحيِّي بعضنا بعضا .
وأما عيسى بن مريم ، فعبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وابن العذراء البتول .
فأخذ عودا وقال : والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود .
فقال عظماء الحبشة : والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك .
فقال : والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا , وما أطاع الله الناس في حين
ردَّ علي ملكي فأطيع الناس في دين الله ، معاذ الله من ذلك .
وقال يونس عن ابن إسحاق : فأرسل إليهم النجاشي
فجمعهم ، ولم يكن شيء أبغض لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن
يسمع كلامهم .
فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا : ماذا تقولون ؟
فقالوا : وماذا نقول ! نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا ، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن من ذلك ما كان .
فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه .
فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي انتم عليه ؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودي ولا نصرانية .
فقال له جعفر : أيها الملك ، كنا قوماً على
الشرك ، نعبد الأوثان ونأكل الميتة ونسيء الجوار ، يستحل المحارم بعضنا من
بعض في سفك الدماء وغيرها، لانحل شيئاً ولا نحرمه ، فبعث الله إلينا نبياً
من أنفسنا نعرف وفاءه وغيرها ، لا نحل شيئاً ولا نحرمه ، فبعث الله إلينا
نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته ، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده
لا شريك له ، ونصل الأرحام ونحمي الجوار ، ونصلي لله عز وجل ونصوم له ولا
نعبد غيره .
وقال زياد عن ابن إسحاق : فدعانا إلى الله
لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كان نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة
والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ،وصلة الأرحام وحسن الجوار
والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم
وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة
والزكاة والصيام .
قال : فعدد عليه أمور الإسلام.
فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من
عند الله ، فعبدنا الله وحده لا شريك له ،ولم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم
علينا وأحللنا ما أحل لنا .
فَعَدَا علينا قومنا فعذبونا ليفتنونا عن ديننا وليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث .
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيينا
وبين ديننا خرجنا إلى بلادك وأخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك
ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك .
قالت : فقال النجاشي : هل معك شيء مما جاء به ؟
فقرأ عليه صدراً من " كهيعص " فبكى والله النجاشي حتى أخضلت لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم .
ثم قال : إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى ، انطلقوا راشدين ، لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عيناً .
فخرجنا من عنده ،وكان أبقى الرجلين فينا عبد
الله بن ربيعة ،فقال عمرو بن العاص : والله لآتينه غداً بما أستأصل به
خضراءهم ، ولأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد ، عيسى بن مريم ، عبد !
فقال له عبد الله بن ربيعة : لا تفعل ، فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحما ولهم حقا
فقال : والله لأفعلن .
فلما كان الغد دخل عليه فقال : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً فأرسل إليهم فسلهم عنه .
فبعث والله إليهم ، ولم ينزل بنا مثلها .
فقال بعضنا لبعض : ماذا تقولون له في عيسى إن هو يسألكم عنه ؟
فقالوا : نقول والله الذي قاله فيه ، والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه .
فدخلوا عليه وعنده بطارقته ، فقال : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟
فقالوا له جعفر : نقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
فدلىالنجاشي يده إلىالأرض فأخذ عودا بين أصبعيه فقال : ما عداً عيسى بن مريم مما قلت هذا العويد .
فتناخرت بطارقته ، فقال : وإن تناخرتم والله !
أذهبوا فأنتم شيوم في الأرض . [ الشيوم : الآمنون في الأرض ] من سبكم غرم ،
من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، ثلاثا . ما أحب أن لي دبرا وأني رجلا منكم ، [
والدبر بلسانهم ] . الذهب .
وقال زياد عن أبن إسحاق : ما أحب أن لي دبراً من ذهب . قال ابن هشام . ويقال : زبراً . وهو الجبل بلغتهم .
ثم قال النجاشي : فوالله ما أخذ الله مني
الرشوة حين رد علي ملكي ، ولا أطلع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه ، ردوا
عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها ، واخرجا من بلادي .
فخرجا مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به .
قالت : فأقمنا مع خير جار في خير دار .
فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه .
فوالله ما علمتنا حزناً حزناً قط هو أشد منه ، فرقا من أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه .
فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي ، فخرج إليه سائرا .
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض : من يخرج فيحضر الوقيعة حتى ينظر من تكون .
فقالك الزبير ، وكان من أحدثهم سناً : أنا
فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ، فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقة الآخر إلى حيث التقى الناس ، فحضر الوقعة .
فهزم الله ذلك الملك وقتله وظهر النجاشي عليه .
فجاءنا الزبير ، فجعل يليح لنا بردائه ويقول :
ألا فأبشروا ، فقد أظهر الله النجاشي . قالت : فوالله ما علمتنا فرحنا بشيء
قط فرحنا بظهور النجاشي . ثم أقمنا عنده حتىخرج من خرج منا إلى مكة وأقام
من أقام .
قال الزهري : فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير
عن أم سلمه ، فقال عروة : أتدري ما قوله : ما أخذ الله مني الرشوة حين رد
علي ملكي فآخذ الرشوة فيه ، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه ؟
فقلت : لا ، ما حدثني ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمه
فقال عروة : فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك
قومه ، وكان له أخ له من صلبه أثنا عشر رجلا ، ولم يكن لأبي النجاشي ولد
غير النجاشي ، فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا: لو أنا قتلنا أبا النجاشي
وملكنا أخاه ، فإن له أثنى عشر رجلا من صلبه فتوارثوا الملك ، لبقيت
الحبشة عليهم دهراً طويلاً لا يكون بينهم اختلاف .
فعدوا عليه فقتلوه وملكوا أخاه .
فدخل النجاشي بعمه حتى غلب عليه ، فلا يدير أمره غيره ، وكان لبيبا حازماً من الرجال .
فلما رأت الحبشة مكانه من عمه ن قالوا : قد غلب
هذا الغلام على أمر عمه ، فما نأمن أن يمكن علينا ، وقد عرف أنا قتلنا
أباه ، فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله ، فكلموه فيه فليقتله أو
ليخرجنه من بلادنا .
فمشوا إلى عمه فقالوا : قد رأينا مكان هذا
الفتى منك ، وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه ، وإنا لا نأمن أن يملك
علينا فيقتلنا ، فإما أن تقتله وإما أن تخرجه من بلادنا . قال : ويحكم !
قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم ! بل أخرجه من بلادكم .
فخرجوا به فوقفوه في السوق وباعوه من تاجر من التجار قذفه في سفينة بستمائه درهم أو بسبعمائة فانطلق به .
فلما كان العشى هاجت سحابة من سحائب الخريف ، فخرج عمه يتمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته .
ففزعوا إلى ولده ، فإذا هم محمقون ليس في أحد منهم خير . فمرج على .
الحبشة أمرهم . فقال بعضهم لبعض : تعلمون
والله إن ملككم الذي لايصلح أمركم غيره للذين بعتم الغداة ، فإن كان لكم
بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب .
فخرجوا في طلبه ، فأدركوه فردوه ، فعقدوا عليه تاجه وأجلسوه على سريره وملكوه
فقال التاجر : ردوا علي مالي كما أخذتم مني غلامي . فقالوا : لا نعطيك .
فقال : إذا والله لأكلمنه .
فمشى إليه فكلمه فقال : أيها الملك ، إني أبتعت
غلامًا فقبض مني الذين باعوه ثمنه ، ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي ولم
يردوا علي مالي .
فكان أول ما خبر من صلابة حكمه وعدله أن قال : لتردن عليه ماله أو لتجعلن يد غلامه في يده فليذهبن به حيث شاء .
فقالوا : بل نعطيه ماله . فأعطوه إياه .
فلذلك يقول : ما أخذ الله مني الرشوة فآخذ الرشوة حين ردَّ علي ملكي ، وما أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه .
درجة الحديث عند أهل العلم :
حديث أم سلمة الأول صححه المحدث أحمد شاكر والعلامة الألباني .
غريب القصة :
ـ أرسالا : جماعات
النجاشي : اسمه أصحمة بن بحر ، والنجاشي لقب
الملك عندهم كقولهم كسرى وهرقل ؛ قال ابن كثير : " قيصر علم لكل من ملك
الشام مع الجزيرة من بلاد الروم ، وكسرى علم على من ملك الفرس . وفرعون علم
لمن ملك مصر كافة ، والمقوقس لمن ملك الإسكندرية ، وتُبَّع لمن ملك اليمن
والشحر ، والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وبطليموس لمن ملك اليونان ، وقيل الهند
، وخاقان لمن ملك الترك " .
ـ بطارقته:هي جمع بطريق وهو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم وهو ذو منصب وتقدم عندهم ( النهاية 1 / 135 ) .
ـ الرهط : هم عشيرة الرجل وأهله ، والرهط من
الرجال ما دون العشرة ، وقيل إلى الأربعين ولا تكون فيهم امرأة , ولا واحد
له من لفظه , ويجمع على أرهط وأرهاط ، وأراهط جمع الجمع ( النهاية 2/283) .
المشكاة : الكوة غير النافذة ، وقيل هي الحديدة
التي يعلق عليها القنديل أراد أن القرآن والإنجيل كلام الله تعالى ،
وأنهما من شيء واحد ( النهاية 4/334) .
ـ العذراء البتول : التبتل الانقطاع عن النساء
وترك النكاح ،وامرأة بتول منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم ، وبها سميت
مريم أم المسيح عليها السلام ، وسميت فاطمة البتول لانقطاعها عن نساء
زمانها فضلا ودينا وحسبا ، وقيل ا نقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى (
النهاية 1 / 94) .
ـ أساقفته : جمع اسقف قال ابن الاثير في
النهاية (3/379) : " هو عالم رئيس من علماء النصارى ورؤسائهم ، وهو اسم
سرياني ، ويحتمل أن يكون سمى به لخضوعه وانحنائه في عبادته ، والسقف في
اللغة طول في انحناء " .
ـ خضراءهم : أي دهماؤهم وسوادهم ( النهاية 2 / 42) .
ـ فتناخرت : بالخاء المعجمة قال ابن الأثير : " أي تكلمت وكأنه كلام مع غضب ونفور ، وأصله من النخر ، وهو صوت الأنف " .
ـ ينشب : أي لم يلبث .